اسمه الكامل أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل ولد عام 1941 في قرية
"القلعة" مركز "قفط" بمحافظة "قنا" فى صعيد مصر، والده الشيخ فهيم كان
يعمل مدرسًا للغة العربية بالمعهد الديني في "قفط" وكان من خريجي الأزهر
الشريف الذي حصل منه على شهادة (العالمية) عام 1940، والدته سيده ريفية
بسيطة لم تنل حظاً من التعليم وكان "أمل" أكبر أخوته الثلاثة حيث تلته
أخته "أمينه" ثم أخيهما الأصغر "أنس".
كان والده بحكم عمله جعل العائلة في حاله تنقل ما بين قرية "القلعة"
وعمله بمدينه "قفط" فهو في فترة الدراسة يقيم بالمدينة ليعمل بالتدريس
وحين تنتهي الدراسة يعود لقريته وهذا التنقل قد أثّر في طبيعة أمل كثيرا
فيما بعد، نشأ "أمل" في بيت أشبه بالصالونات الأدبية، فلم يكن والد أمل
مدرساً للغة للعربية فحسب، ولكنه كان أديباً شاعراً فقيهاً ومثقفاً جمع من
صنوف الكتب الكثير في سائر مجالات المعرفة لذا فقد تفتحت عينا الصغير على
أرفف المكتبة المزدحمة بألوان الكتب، وتأمل في طفولته الأولى أباه وهو
يقرأ حيناً ويكتب الشعر حيناً. لم يكد أمل يتم العاشرة من عمره حتى مات
والده، وحرصت أمه الشابة الصغيرة التي لم تكن قد جاوزت النصف الثاني من
عقدها الثالث على أن يظل شمل أسرتها الصغيرة ملتئماً، مع عناية خاصة
توليها لمستوى الأولاد الاجتماعي من حيث حسن المظهر والتربية وعلاقاتهم
بأصدقائهم.
إلتحق أمل بمدرسة "قفط" الابتدائية الحكومية التي أنهى بها دراسته سنة
1952 ثم التحق بمدرسة "قنا" الثانوية حيث زامل هناك مجموعة من الرفاق صار
منهم فيما بعد الشاعر والمثقف والصحفي والسياسي .. فقد كان من أقرب
أصدقائه إلى نفسه "عبد الرحمن الأبنودي" شاعر العامية الشهير و"سلامة آدم"
أحد المثقفين البارزين فيما بعد و كان لهم الأثر الأكبر في تحويل مجرى
دراسته الثانوية من القسم العلمي للقسم الأدبي.
لهذا كله ولموهبته الشعرية الباسقة لم يكد أمل ينهي دراسته بالسنة
الأولى الثانوية إلا وكان ينظم القصائد الطوال يلقيها في احتفالات المدرسة
بالأعياد الوطنية والاجتماعية والدينية، وهذه المطولات أثارت أحاديث
زملائه ومناوشاتهم بل وأحقادهم الصغيرة أحيانا، فبين قائل بأن ما يقوله
"أمل" من شعر ليس له، بل هو لشعراء كبار مشهورين استولى على أعمالهم من
مكتبة أبيه التي لم يتح مثلها لهم، أما العارفون بـ"أمل" والقريبون منه
فيأملون - من فرط حبهم لأمل- أن يكون الشعر لوالد أمل دنقل، عثر عليه في
أوراق أبيه ونحله لنفسه شفقة على أمل اليتيم المدلل الذي أفسدته أمه بما
زرعته في نفسه من ثقة بالنفس جرأته -في نظرهم- على السرقة من أبيه.
ولما أحسّ أمل من زملائه بالشك؛ تفتق ذهنه عن فكرة مراهقة جريئة وهي
وإن كانت لا تتسق مع شخصيته الرقيقة إلا أنها فاصلة.. أطلق موهبته بهجاء
مقذع لمن تسول له نفسه أن يشكك في أمل أو يتهمه، ولم يمض كثير حتى استطاع
أمل دنقل بموهبته أن يدفع عن نفسه ظنون من حوله، ولما تفرغ أمل من الدفاع
عن نفسه داخل المدرسة تاقت نفسه لمعرفة من هو أفضل منه شعرا في محافظته،
فلم يسمع بأحد يقول بالشعر في قنا كلها إلا ارتحل له وألقى عليه من شعره
ما يثبت تفوقه عليه، وكأنه ينتزع إعجاب الناس منهم أنفسهم.
طموحات شاعر:
ولما لم يكن هناك من يجده أمل مكافئا تاقت نفسه أن يلتقي بالشعراء
الذين يرى أسماءهم على الدواوين الراسخة في مكتبته، وانصرف أمل عن أحلامه
الدراسية وطموحاته العلمية إلى شيء آخر هو الشعر، ومما نُشر لأمل دنقل وهو
طالب في الثانوية أبيات شعرية نشرتها مجلة مدرسة قنا الثانوية سنة 1956،
وكتب تحتها: الطالب أمل دنقل يقول فيها:
يا معقـلا ذابت على أسـواره كل الجنود
حشـد العـدو جيوشه بالنار والدم والحديد
ظمئ الحديد فراح ينهل من دم الباغي العنيد
قصص البطولة والكفاح عرفتها يا بورسعيد وفي العدد التالي أفردت المجلة
صفحة كاملة لقصيدة بعنوان: "عيد الأمومة"، وكتبت تحت العنوان: للشاعر أمل
دنقل، وليس للطالب كسابقتها، جاء فيها:
ريج من الخلد .. عذب عطر وصوت من القلب فيه الظفر
وعيد لـه يهتف الشـاطئان وإكليله من عيون الزهر...
ومصر العلا .. أم كل طموح.. إلى المجد شدت رحال السفر
وأمي فلسطين بنت الجـراح ونبت دماء الشهيد الخضـر
يؤجـج تحنانهـا في القلوب ضرامًا على ثائر ها المستمر
وأمي كل بـلاد.... تثـور أضالعـها باللظى المستطـر
وحصل أمل على الثانوية العامة عام 1957، والتحق بكلية الآداب جامعة
القاهرة عام 1958 لمدة عام واحد فقط، عاد الى محافظ قنا، وعمل موظفاً في
المحكمة لكنه انشغل بالشعر والحياة وترك الوظيفة، ويغادر للقاهرة مره أخرى
هائماً خلف شيطان شعره كما قال .. لكنه احتاج للوظيفة والعمل فعاد ليعمل
موظفاً بمصلحه الجمارك بالسويس ثم بالإسكندرية، ولكنه عاد ليترك العمل
نهائياً ويتفرغ لشعره عام 1971. وقد اتاحت له إقامته في القاهرة نقلة
حقيقية في مجال القصيدة الدنقلية كما يقول عنه "قاسم حداد" في مقاله: "سيف
في الصدر" في مجلة "الدوحة" أغسطس 1983: "دون ضجيج جاء إلى الشعر العربي
من صعيد مصر، وكتب قصيدته المختلفة، وكسر جدران قلعة القصيد كما لم يعهد
الشعر العربي القصائد ولم يعهد الكسور"، وهو يعبر عن ذلك حين يقول:
كنت لا أحمل إلا قلما بين ضلوعي
كنت لا أحمل إلا قلمي
في يدي: خمس مرايا
تعكس الضوء الذي يسري من دمي
افتحوا الباب
فما رد الحرس
افتحوا الباب ….. أنا أطلب ظلا
قيل: كلا
ثورة أمل على الثورة :
جاءت ثورة يوليو بشعاراتها الرنانة التي جذبت إليها الكثيرين، فقد
كانت الثورة أملاً جموحاً للشعب الكادح ومنهم أمل دنقل الفقير ابن أقصي
الصعيد، ولكن أمل لم تدعة الشعارات كغيره ممن انساقوا ورائها، فقد كان
متنبهاً لأخطائها وخطاياها، فسجل رفضة للثورة بعين الباحث عن الحرية الحية
والواقعية لا شعارها، فهو يرفض الحرية المزعومة التي فتحت أبواب السجون
والمعتقلات، وضمت في غياهبها الكثير من أبناء مصر الذين لم ينساقوا
ورائها، فيقول:
أبانا الذي في المباحث، نحن رعاياك
أبانا الذي في المباحث، نحن رعاياك
وباق لمن تحرس الرهبوت
تفرّدت وحدك باليسر
إن اليمين لفي خسر
أما اليسار ففي عسر
إلا الذين يماشون
إلا الذين يعيشون..
يحشون بالصحف المشتراة العيون فيعيشون
إلا الذين يوشُون
إلا الذين يوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت
الصمت وشمك..
والصمت وسمك
والصمت أنى التفتّ
وقد نشر أمل دنقل قصيدته للمرة الأولى في مجلة (سنابل) التي كان
يصدرها الشاعر محمد عفيفي مطر من محافظة كفر الشيخ, وطلب منه إغلاق المجلة
بعد أن نشرت قصيدة (الكعكة الحجرية)، لكن القصيدة ظلّتْ تُقرأ في المحافل
الطلابية التي حضرها أمل دنقل, وصاغ بقصيدته (أغنية الكعكة الحجرية) ذروة
تعبيرها الاحتجاجي الذي تمثل في الاعتصام بميدان التحرير حول النصب الذي
كان قائماً فيه, وهو الاعتصام الذي فضّته أجهزة الأمن بالقوة خوفاً من
تفاقم نتائجه, فسقط بعض الطلاب ضحية الاصطدام. وانطلق صوت أمل دنقل يسجّل
(الإصحاح الأول) من (سفر الخروج):
أيها الواقفون على حافّة المذبحه
شهروا الأسلحة!
سقط الموتُ; وانْفَرَطَ القلبُ كالمسبحهْ
والدم انساب فوق الوشاح!
المنازل أضرحَة,
والزنازن أضْرحَهْ
فارفعوا الأسلحة
واتبعوني!
أنا ندم الغد والبارحة
رايتي: عظمتان... وجُمجُمَة
وشعاري: الصباح.
بين يدي زرقاء اليمامة !!
ويستمر أمل دنقل يصارع الواقع العربي بإنتاج شعري وكانت هزيمة يونيو
1967(النكسة) بداية الإنعطافة الحقيقية لدنقل نحو الشهرة ونحو الشعر، وفي
الأيام الأولى للنكسة أو الهزيمة كان أمل دنقل يقرأ قصيدة ( البكاء بين
يدي زرقاء اليمامة) قبل النشر وهي قصيدة جريئة أكدت خطواته على طريق الشعر
ولم يكن قد بلغ الثلاثين من عمرة بعد، متخذا من الأسطورة رمزا كما عودنا
من ذي قبل في كثير من قصائده، وكانت عنواناً لأهم دواوينه "البكاء بين يدي
زرقاء اليمامة"، وكان بعضهم يحذره من نشر القصيدة، وفيما تبقى من عام 1967
وإلى أوائل السبعينات كانت القصيدة على كل لسان، فقد كانت تعبيراً عميقاً
وصادقاً عن الموقف فيقول:
أيتها العرافة المقدسة جئت اليك مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلي، وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء
كيف حملت العار
ثم مشيت، دون أن أقتل نفسي، دون أن أنهار
ودون أن يسقط لحمي من غبار التربة المدنسة
أعادت هذه القصيدة إلى الأذهان مأساة (زرقاء اليمامة) التي حذرت قومها
من الخطر القادم فلم يصدقوها، كأنها صوت الابداع الذي كان يحذر من الخطر
القادم في العام 1967 (النكسة) فلم يصدقه أحد إلا بعد أن حدثت الكارثة،
وإذ أكد (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) التشابه بين الماضي والحاضر
تأتي التساؤلات في القصيدة لتجسد صوت المواطن العربي الذي ذبحته
الهزيمة من جهة، وصوت الشاعر الذي خذلوه بعد أن حذرهم من جهة أخري، فتحدث
الأبيات عن ذلك العبد العبسي البائس الذي دعي إلى الميدان والذي لا حول له
ولا شأن، فانهزم وخرج من جحيم هزيمته عاجزاً، عارياً، مهاناً، صارخاً،
كأنه صدى يجسد ما في داخل كل قارئ عربي للقصيدة في الوقت الذي كتبت فيه،
وإذا كان صوت هذا العبد العبسي شاهدا على الهزيمة فإن بكاءه في حضرة زرقاء
اليمامة -العرافة المقدسة- شاهد على ما يمكن أن يفعله الشعر في زمن
الهزيمة، خصوصا من حيث هي صورة أخرى من هذه العرافة: يرى ما لا يراه
الآخرون ويرهص بالكارثة قبل وقوعها، وينطق شهادته عليها وقوعها، ويتولى
تعرية الأسباب التي أدت إليها، غير مقتصر على الإدانة السلبية في سعيه إلى
استشراف أفق الوعد بالمستقبل الذي يأتي بالخلاص .
ويستمر الرفض..
وبعد ثلاثة أعوام تقريبا من وقوع الهزيمة التي مزقت حياة العرب
المعاصرين رحل جمال عبد الناصر، وكانت وفاته أو بالأصح كان غيابه في
الساحة العربية في مثل تلك الظروف الفاجعة هزيمة أخرى، وبعد رحيل عبد
الناصر بأربعين يوماً التقى الشعراء العرب من مختلف الأقطار العربية
لتأبين الزعيم الراحل وفي الاستراحة الجانبية للقاعة الكبرى للاتحاد
الاشتراكي كان عدد من الشعراء والنقاد يقطعون الوقت في انتظار لحظة افتتاح
الاحتفال التأبيني...
انفجر أمل في الشعر الحديث بهدوء؛ لكن بنوع مرير من السخرية لم تتوفر
كثيراً في هذا الشعر، وصارت هذه الخاصية من أرقى ملامح شعره، فيقول:
(قيل لي أخرس)
فخرست، وعميت وائتممت بالخصيان
ظللت في عبيد "عبس" أحرس القطعان
أجز صوفها
أرد نوقها
أنام في حضائر النسيان
طعامي: الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة
وها أنا في ساعة الطعان
ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان
دعيت للميدان
أنا الذي ما ذقت لحم الضان
أنا الذي لا حول لي أو شان
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان
أدعى إلي الموت .. ولم أدع إلي المجالسة
يتحدث هذا الجزي من قصيده البكاء بين يدي زرقاء اليمامة عن عبد من
عبيد عبس يظل يحرس القطعان، يصل الليل بالنهار في خدمة السادة، طعامه
الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة، وحين تقع الواقعة لا يملك هذا العبد
سوى التوجه الى (زرقاء اليمامة) التي يعتبرها أمل كاهنه المستقبل ، كي
ينفجر في حضرتها شعراً .
ويواصل أمل دنقل في عهد السادات أقسى درجات رفضه الاجتماعي والسياسي,
خصوصاً في ما سمي عام الضباب, وتأتي اتفاقية كامب ديفيد فيكتب أمل دنقل :
"لا تصالح"، فيقول فيها:
لا تصالحْ !
.. ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشتري !!!
لا تصالح على الدم .. حتى بدم
لا تصالح ! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ ؟ .... أقلب الغريب كقلب أخيك ؟
أعيناه عينا أخيك ؟!
وهل تتساوى يدٌ .. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها .......... أثْكَلك ؟
وكان أمل بدأ يكتب (لا تصالح) من قبل توقيع الاتفاق النهائي, لا لأنه
يرفض السلام وإنما لأنه يرفض الاستسلام, ويتطلع إلى سلام عادل يعيد جميع
الحقوق لأصحابها, وإلا فلا لزوم له, ولا مفر من مواصلة الكفاح من أجل
استعادة الأراضي السليبة كلها، وما أسرع ما تحولت (لا تصالح) إلى قصيدة
قومية يرددها كل الرافضين للتنازلات التي قدمها السادات ثمناً للصلح مع
إسرائيل، وكانت حِدَّة رفضه السياسي في ذلك الوقت مقرونة بالسخرية التي
كانت تدفعه إلى كتابة أسطر من قبيل:
أيها السادة: لم يبقَ انتظارْ
قد منعنا جزيةَ الصمت لمملوكٍ وعَبْدْ
وقطعنا شعرةَ الوالي (ابن هند)
ليس ما نخسره الآنَ...
سوى الرحلة من مقهى لمقهى
ومن عارٍ لعَارْ!!
وفي عام 1971 ينشر أمل دنقل ديوانه الثاني: "تعليق على ما حدث" ثم
يأتي نصر 1973 وعجب الناس من موقف أمل دنقل الذى لم يكتب شعراً يمجد هذا
النصر حيث يصدر ديوانه الثالث "مقتل القمر" عام 1974 دونما قصيدة واحدة
تحدثنا عن النصر بل أنه يحذر ويتنبأ : ماذا بعد النصر؟، وفي 1975 يصدر
ديوانه "العهد الآتى" الذى وصل فيه للقمة فى الشعر.
وفي أحد أيام ربيع عام 1976 يلتقي أمل دنقل بالصحفية "عبلة الرويني"
التي كانت تعمل بجريدة "الأخبار" فتنشأ بينهما علاقة حب قوية تتوج بالزواج
1978، ولأن "أمل" كان كثير التنقل والترحال فقد اتخذ مقرًا دائما بمقهى
"ريش"، وإذا بالصحفية "عبلة الرويني" زوجة الشاعر الذي لا يملك مسكناً،
ولا يملك مالاً يعدّ به السكن تقبل أن تعيش معه في غرفة بفندق، وتنتقل مع
زوجها من فندق لآخر، ومن غرفة مفروشة لأخرى.
أمل وبداية النهاية
أصيب أمل دنقل بمرض السرطان الخبيث عام 1979 لكنه كان صاحب إراده
عالية فى صراعه مع المرض، ودخل أمل المستشفى للعلاج، وكان لا يملك مالاً
للعلاج الباهظ الذي يحتاجه في مرضه، وبدأت حملة لعون الشاعر من قبل
الأصدقاء والمعجبين، وكان أولهم "يوسف إدريس" الذي طالب الدولة بعلاج أمل
على نفقتها، وبالطبع كالعادة لم توافق الدولة على علاج الشاعر المعارض
المشاغب لكن أصدقاءه أقاموا حمله لمساعدته فطلب أمل منهم التوقف عن حملة
المساعدة.
وظل أمل دنقل يكتب الشعر في مرقده بالغرفه رقم 8 بالمستشفى على علب
الثقاب وهوامش الجرائد، ولم يهمل الشعر لحظة حتى آخر أيامه، حتى إنه يتم
ديوانا كاملا باسم "أوراق الغرفة 8" نشرته زوجته بعد أربعين يوماً من
وفاته بمساعده وزاره الثقافة
ووصولاً إلى المحطة الأخيرة الأكثر خطورة حياة وشعراً, في (غرفة رقم8)
بمعهد الأورام وهنا تبدو مفارقة أخرى في رحلة المفارقات الشعريّة عند أمل
دنقل, مفارقة كما يقول النقاد تبدو قليلة في تاريخ الإبداع والمبدعين; وهي
الكتابة على عتبة الموت القادم حتماً, حيث الشخص الموشك على الإنطفاء
النهائي, ينهي مسار تحديّاته للحياة والزمن ويستكين إلي قَدره;
وإذا ثمة كتابة فليست أكثر من شكوى قدريّة وبوح واسترحام بالمعنى
البائس الذي يرتد إليه الكائن في لحظة الانكسار النهائي، في (غرفة رقم8)
نقرأ كتابة مختلفة لأمل دنقل, استمراراً للرحلة الإبداعية برهافة وإشراق
أكبر، خفّت تلك الجَلَبة في النص, وتعمق مكانها تأمل وجودي أكثر حضوراً عن
ذي قبل في الحياة والموت والطبيعة.
ومن الطفولة يتذكر
(هل أنا كنت طفلاً
أم أن الذي كان طفلاً سواي?
هذه الصورة العائليّة
كان أبي جالساً وأنا واقف تتدلى يداي
رفسة من فرس
تركت في جبيني شجا وعلمت القلب أن يحترس)
ويمضي دنقل في تأمل الموت من خلال المشهد المحيط به, فيقول في قصيدة زهور حيث تتحدث له الزهرات الجميلة عن ساعة إعدامها لحظة القطف:
تتحدث لي الزهرات
الجميلة
أن أعينها اتسعت –دهشة
لحظة القطف
لحظة القصف
لحظة إعدامها في الخميلة
***
تتحدث لي
أنها سقطت من على عرشها في البساتين
ثم أفاقت على عرضها في زجاج الدكاكين
أو بين أيدي المنادين
حتى اشترتها اليد المتفضلة العابرة
كل باقة
بين إغفاءة و إفاقة
تتنفس مثلي -بالكاد- ثانية .. ثانية
و على صدرها حملت راضية
اسم قاتلها في بطاقة !!
توفى أمل دنقل يوم 21 مايو عام 1983 ودفن بمسقط رأسه فى "قفط" فى
مقابر أسرته وأقيمت له جنازة بسيطة بحسب وصيته التى كانت أقصر وأشهر وصيه
فى التاريخ الأدبى المعاصر .. سطرين فقط لا غير قال فيهما : "لا حزن ولا
بكاء فقد حزنت وبكيت فى حياتى ما يكفى .. أوصيكم بأن تكتبوا على قبرى هذا
قبر فلان ابن فلانه بن فلان وكل من عليها فان"
تولت زوجته الوفيه عبلة الرويني الاشراف على طباعة ما أتمه من أجزاء
جديد من قصيدته المطوله (البكاء بين يدى زرقاء اليمامة) بعنوان جديد هو
(أقوال جديدة عن حرب البسوس) فى ديوان كامل صدر عام 1984، قبيل نشر
الأعمال الكاملة عام 1985 التي أشرفت السيده عبله على أكثر من طبعة لها.
صفات أمل الشخصية
المتأمل لشعر أمل دنقل وقصة كفاحه يستطيع أن يستشف بعضاً من صفات هذا
الشاعر المتبتل في محراب الشعر، فأهم ما يميز أمل دنقل الحس العالي
بالرجولة, الكرامة التي لا تقبل التنازل مهما كان هيناً, الاعتزاز بالنفس
إلى أبعد حد, الترفع عن الصغائر, الوفاء النادر, الإخلاص الحقيقي, المحبة
الخالصة, النهم المعرفي الذي لا يهدأ, روح الانطلاق التي لا تعرف السكون,
رغبة المغامرة التي لا تخشى شيئاً, الوعي السياسي القومي الذي لا يقبل
المهادنة ويرفض الاستسلام, احتقار المال على رغم الحاجة إليه, تقديس الشعر
بصفته الفرح المختلس الذي يمنح الحياة معنى, الجسارة المتناهية في كتابته,
والشجاعة القصوى في التعبير عن الرأي أو السلوك مهما كانت العقبات. كان
أمل دنقل يرى عبر أقنعته وأساطيره التي يمتاز بها شعره ما سيؤول إليه
الوضع العربي, من رعب وانحدار تتواضع أمامه أعتى المآسي في التاريخ
وأكثرها هولاً.
رومانسية أمل دنقل
يظن الكثيرون أن شعر أمل دنقل كان سياسياً فقط، غير أن شعر أمل
الرومانسي يقترن دائما بتوهج لحظات الحب القليلة التي مر بها، والتي جعلته
يدرك أهمية المرأة في حياته، ويخلص لها ويغفر لها زلاتها، ما ظل مقتنعا
بطيب عنصرها، ومؤمنا بالامكانات الخلاقة التي تنطوي عليها، ولذلك كانت
المرأة التي أحبها هي الحضور الدائم الذي يمنح الحياة بهجتها، رغم كل عذاب
الحياة، وكل إخفاقات الحب في الوقت نفسه، فنجدة يقول :
دائما أنت في المنتصف أنت بيني وبين كتابي
وبيني وبين فراشي وبيني وبين هدوئي
وبيني وبين الكلام ذكريات سجني
وصوتك يجلدني
ودمي قطرة ـ بين عينيك ـ ليست تجف
نجد في شعر أمل الرومانسي معاني جميلة، وتعبيرات مؤثرة، فيقول في
قصيدة طفلتها من ديوان مقتل القمر بعد أن مرت خمس سنوات على وداع حبيبته
وفجأة.. رأى طفلتها:
لا تفّري من يدي مختبئة
.. خبت النار بجوف المدفأة
أنا..
(لو تدرين)
من كنتِ له طفله
لولا زمان فجأة
كان في كفي ما ضيعته
في وعود الكلمات المرجأة
كان في حبي لم أدر به
.. أو يدري البحر قدر اللؤلؤة؟
إنما عمرك عمر ضائع من شبابي
في الدروب المخطئة
"ضدّ من" عنوان قصيدة لدنقل يلخص فيها معاناة البشر بقوله "ومتى القلب
في الخفقان اطمأن؟"، في القصيدة يحتار دنقل بين السواد والبياض
ومدلولاتهما وهو على سرير الموت والمرض، ولكنه يستقر مؤخراً على لون
الحقيقة.. لون تراب الوطن:
في غرف العمليات
كان نقاب الأطباء أبيض
لون المعاطف أبيض
تاج الحكيمات أبيض
الملاءات
لون الأسرة , أربطة الشاش والقطن
قرص المنوم , أنبوبة المصل
كوب اللبن
كل هذا يشيع بقلبي الوهن
كل هذا البياض يذكرني بالكفن
فلماذا إذا مت
يأتي المعزون متشحين بشارات لون الحداد
هل لأن السواد
هو لون النجاة من الموت
لون التميمة ضد الزمن
بين لونين استقبل الأصدقاء
الذين يرون سريري قبرا
يرون حياتي دهرا
وأرى في العيون العميقة لون الحقيقة
لون تراب الوطن
كان هذا هو أمل دنقل شاعر الفقراء والمهمشين في الحياة, إنه الأيقونة
في عصر فقد براءة الأشياء وركض خلف السراب .. أمل دنقل الشاعر العربي
المصري الذي غاب عنّا منذ 33 عاماً تاركاً لنا "البكاء بين يدي زرقاء
اليمامة","تعليق على ما حدث","مقتل القمر","العهد الآتي","أقوال جديدة عن
حرب البسوس","أوراق الغرفة 8" وهي آخر مجموعة شعرية مصارعا الموت بالأمل
والصمود .