ليس هناك مثال على ما وصلنا إليه من فوضى التفكير و المشاعر اكثر مما يحدث الأن من احداث و تراشق و تعبئة نفسية على خلفية مبارة عادية لكرة القدم بين مصر و الجزائر ، لقد تناسينا ان كرة القدم مجرد رياضة مثل اى رياضة و ان المبارة المزعومة مبارة مثل اى مبارة و ضخمنا الامور و بالغنا فى ردود افعالنا و اهتمامنا حتى و صلنا الى حد إذاعة الأغانى الوطنية التى تم تأليفها و غنائها للأحتفالات بانتصار اكتوبر تيمنا بها و رغبة فى إستدعاء آيات النصر لمجرد ان ننتصر فى مبارة كرة قدم و الغريب اننا لا نتذكر اعلام مصر و نشتريها إلا قبل مباريات كرة القدم ، الوطنية تم اختصارها فى شىء سطحى مثل كرة القدم و لا يتم اللجوء الى استدعاء الوطنية فى ظروف اهم و مناسبات أولى ، أليس من الاوقع ان ترفع اعلام مصر فى يوم مثل يوم 6 اكتوبر مثلا
هل هناك وضع عبثى اكثر من ذلك ؟
لقد غاب عن فهمنا ان الاشياء لابد ان توضع فى حجمها الحقيقى و لا تأخذ منا مساحة من التفكير و الطاقة اكثر مما تستحق ، قد يقول البعض ان الاعلام هو السبب فيما وصلنا اليه وهو الذى جعل كرة القدم تأخذ مساحة اكبر من حجمها الطبيعى من الاهتمام ، قد يقول البعض الأخر ان المشكلة فى كرة القدم نفسها لتحولها من رياضة من المفترض ان تساعد على نشر السلام و الإخاء بين الشعوب إلى سبب للتعصب الاعمى و خلق الكراهية ، و رغم ما تحتويه هذه الاراء من الصحة إلا اننى ارى ان المشكلة الحقيقية ليست فى كرة القدم او الاعلام بل ان جوهر المشكلة الحقيقية فينا نحن ، فى لجوئنا لأشياء اشياء خارج سياق حياتنا مثل كرة القدم نفرغ فيها شحنات الغضب و الطاقة بداخلنا و الناتجة عن ضغط المعيشة الذى نتعرض له بدلا من تفريغ هذا الضغط بصورة إيجابية فى اتجاه لإصلاح و تحسين معيشتنا و تخفيف الضغط و حتى لو تم إلغاء كرة القدم سنجد شىء اخر لنفرغ فيه نفس الشحنة لأننا ببساطة نعجز عن مواجهة مشاكلنا الحقيقية و نلجأ للهروب بأى وسيلة تلهينا عن التفكير فيها
اما بالنسبة للأعلام فبالرغم من الحالة التى ساهم فى تكوينها من نشر للأثارة و تهييج الجماهير إلا اننا لا نستطيع ان نوجه له الاتهام وحده فالأعلام ليس سوى إفراز لواقع المجتمع الذى نعيشه الذى يتعطش لأى شىء يلهيه عن واقعه و يطلب اسباب الفرحة و احيانا اسباب الكراهية فيما يقدمه له الاعلام و خاصة الاعلام الرياضى فى اشياء مثل كرة القدم و مشتقاتها المثيرة التى ليس لها اى علاقة بكرة القدم مثل فضائح و خناقات الشخصيات الرياضية التى فقدت علاقتها بالرياضة بمفهومها كرياضة و تحولت الى احتراف الاعلام الرياضى لتصبح الرياضة بالنسبة لها مجرد سبوبة و لامانع من حشو البرامج الرياضية بالفضائح و الخناقات و المساجلات و الاتصالات التليفونية التى لا تنقطع و الفواصل الاعلانية تجلب المزيد من المال و الناس سعيدة بما تشاهد بل و تريد المزيد
مبارة كرة القدم فى النهاية لن يغير الانتصار او الهزيمة فيها من واقع المشاهد شىء بل هى معارك وهمية مثل احلام اليقظة يحقق الانتصار فيها شعور بالنشوة الزائفة التى تمثل المخدر الذى يسرى فى عروق الشعب ليسكن الامه ، مجرد مسكن يعطيه نشوة مؤقتة و يلهيه عن التفكير فى الالم الذى يشعر به و يجعله يستمر فى الحياة دون محاولة لعلاج الاسباب الحقيقية لهذا الالم و قس على ذلك كل انواع المسكنات و كل اشكال الإلهاء التى يتعرض لها الشعب المصرى فكرة القدم ليست الا مثال ، بل ان هناك منظومة محكمة للإلهاء بداية من النكت و النميمة و الاشاعات و اخبار الحوادث و الفنانين و فضائح المشاهير و مرورا بأغانى الفيديو كليب و برامج المسابقات و المسلسلات التلفزيونية و انتهاءا بالحشيش و المخدرات و احيانا يتم إلهائنا بألعاب اكثر خطورة مثل الفتنة الطائفية
و الحق يقال ان السلطة تدرك جيدا ما يريده الشعب و متى يريده من اشكال و انواع الإلهاء المختلفة المشروعة و الغير مشروعة و تقدمها له بشتى الطرق مستعينة فى الاغلب بالاعلام و مستغلة لكل انواع الاحداث مثل جرائم السفاحين و فضائح الفنانين و المشاهير و كل اشكال و نماذج التطرف و الانحراف الاجتماعى بل و قد تسمح احيانا ببعض الامور و تخفى بعض الاشياء لأبرازها فى وقت معين و كل هذا لكى تبقى هذا الشعب دائما مشغول و مستثار و يعيش حالة من الإلهاء و الاهتمام بشىء ما و لكن المهم ان يكون هذا الشىء تافه و خارج سياق حياته و يلهيه عن التفكير فى حاله و واقعه و ماوصل اليه بشكل بناء يجعله يفكر فى تغيير هذا الواقع
المعضلة هنا ليست فقط فى القدرة على إفاقة هذا الشعب من غيبوبته و لكن المعضلة ايضا هى هل يريد هذا الشعب ان يفيق بالفعل ام لا ؟ هل يملك الجرأة على الاستيقاظ لمواجهة واقعه ؟
أغلب الشعب مغيب لكن البعض مستيقظ بالفعل و يحاول ان ينشر الوعى بالمشاكل و يطرحها على الساحة كما نرى فى برامج التوك شو و بعض الصحف المستقلة و وسائل الاعلام البديلة كالمدونات و الفيس بوك و غيرها من وسائل التعبير عن الرأى التى يتسنى لها ان تفلت و لو جزئيا من منظومة الإلهاء و التغييب و لكن حتى هؤلاء من هم على قدر من الوعى يستغرقون فى توصيف الواقع و الحديث عن المشاكل دون طرح حلول و حتى لو تم اقتراح حلول فهى لا تتجاوز مرحلة الاقتراح الى مرحلة الفعل و التحول الى واقع إلا فى اضيق الحدود
سيقول قائل ان هذه دعوة للجدية اكثر من اللازم و "ما تحبكهاش قوى كده ياعم فيها ايه لما نهيس و نهلس شوية ده الشعب شقيان و محتاج يفرح هتبقى انت و الزمن و الحكومة علينا" و أرد على هذا القائل قائلا " هذه دعوة للوعى فلا مانع ان نرفه عن انفسنا لكن عندما يتحول الترفيه الى مخدر يغيب وعيك و يلهيك عما يحدث لك و من حولك و تنقلب قائمة اولوياتك فى الحياة لتقدم اتفه الامور على الامور الهامة و الاساسية لحياتك و مستقبلك يصبح لدينا مشكلة حقيقية تحتاج الى وقفة مع النفس و مراجعة " ولا يوجد حل لتغيير واقعنا الى الافضل إلا الهروب من منظومة الإلهاء التى تحيط بنا و تطاردنا يوميا و ألا نترك نفسنا فريسة لاشياء تافهة تشغل تفكيرنا و ألا نسلم عقولنا لمجموعة من المهرجين و الافاقين و هذا كفيل بالقضاء على منظومة الإلهاء تدريجيا فالبضاعة التى لا تجد من يشتريها تبور و يلجأ بائعها لتغيير النشاط ، وعند ذلك نستعيد و عينا بما يحدث لنا و من حولنا ، نستطيع ان ننظر فى المرآة و نواجه حقيقتنا بالفعل و بالتالى سنستطيع ان نحدد مشاكلنا و عيوبنا بوضوح و نستطيع ان نضع حلول واقعية لمشاكلنا و ان نتوقف عن تعاطى المسكنات لأننا لن نحتاج اليها بعد الان طالما عالجنا اسباب الألم الحقيقية