الحلقة العاشرة والأخيرة: لقاء حبيبي والخفي!!
نظرت إلى الصفحة التي تقرؤها.. والتي لم يبق سواها لتختم القرآن كله.. إنها السور القصيرة التي تعلمتها في المدرسة.. وحفظتها عن ظهر قلب.. فرغت من الفلق ثم الناس وقرأت الدعاء:
(اللهم اجعل في بصري نوراً, واجعل في سمعي نوراً, واجعل في لساني نوراً, واجعل في فمي نوراً, واجعل عن يميني نوراً, واجعل عن يساري نوراً, واجعل من أمامي نوراً, واجعل من خلفي نوراً, واجعل من فوقى نوراً, واجعل من تحتي نوراً, واجعل لي يوم القيامة نوراً, و أعظم لي نوراً)
دمعت عيناها وهي تشعر بنشوى لذيذة.. انتعش لها كيانها بل تشربتها كل أعضائها وخلاياها..
كيف يُهجر هذا الكتاب الذي هو هدى ونور.. ولا يتذكره إلا القليل من المسلمين في شهر واحد في السنة؟
نظر إلى دموعها الصادقة المنحدرة على خديها الورديين وقال لها: لا تنسي يا روان لك بعد ختم القرآن دعوة مستجابة..
جاءها خاطر وهي تسمع تلك الكلمات فراحت تحدث نفسها: أي ربٍ كريمٍ هذا؟ نعصيه ويسترنا.. نقدم على نواهيه ويمهلنا.. نترك أوامره ويتودد إلينا.. ننسى أن نشكره على نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى ولا يقطع رزقه عنا.. وإذا ما أقبلنا عليه بعد أن هجرناه وابتعدنا عنه طويلاً ً قبلنا وفرح بنا وإذا سألناه من عطاياه لم يحرمنا بل يمنحنا الفرص كي نقف على بابه الذي لا يقفل في وجه سائل فندعوه فيستجيب لنا!
نظرت إلى الساعة ثانية.. تذكرت موعداً تحبه.. خرجت من دارها.. وقفت عند بوابة الحديقة..
وقد بدا عليها التوتر والقلق.. - وهو- ينظر إليها من بعيد مبتسماً.. دون أن يعلق..
وصل صديقها صاحب القبعة الزرقاء فابتهجت أساريرها.. وقالت له وهي تشير إلى حبيبها:
- هذا هو حبيبي أيها الخفي ما رأيك به أليس رائعاً؟
صافحه بحرارة.. وقال وهو يغمز بإحدى عينيه:
- رائع كحبيبته..
- يسرني أن أراك مجدداً يا كريم..
- وأنا يسرني ذلك أيضاً بل سرني أن أراك مجدداً مع روان كم كانت مشتاقة لهذا اليوم..
نظرت إليهما في دهشة:
- مجدداً؟؟ كأنكما تعرفان بعض من زمان؟
- طبعاً يا روان فأنا أعرف حبيبك.. كيف لا أعرف الطبيب الذي يداوي جراح أحد عشر شهراً مضت من عمرنا؟ كيف لا أعرف النور الذي يجتاح أرواحنا ويدفئ ليالي حياتنا الباردة ويملأ نفوسنا إحساساً بمعاناة الآخرين وفقرهم وجوعهم طوال السنة حين نجوع شهراًً واحداً.. كيف لا أعرف من ببركته تتحقق أمانينا وأمنياتنا حتى وإن بدت مستحيلة.. كيف لا أعرف من سمي كريماً لأنه يمنحنا الفرصة للعودة إلى بارئنا.. ومعرفة دينه وقراءة كتابه.. وكأنه يشفع لنا عنده كي يمن علينا بعفوه ورحمته ويعتقنا من النار..
- ولماذا لم تقل لي؟
- وجدته عند بيتكم مهموماً حزيناً.. فطلب مني أن أنقل إليك حال الناس حتى تشعري بحزنه.. فتغيري من طبعك لتستقبليه استقبالاً خاصاً مختلفاً عن استقبال الآخرين.. الذين استقبلوه بالمغالاة في زيارة الأسواق وبتضييع الوقت في اللهو دون معرفة أجره وفضله وقيمته..
- لكن كل الناس تعرفه.. وهو لا يبخل بحضوره إليهم بل إنه يدخل حتى إلى بيوت الفقراء بكل تواضع و يملأ نفوسهم بالنشوة والسعادة فلماذا لم أعرفه هذه السنة؟
- لقد عرفته السنة الفائتة وأحببته.. لأنك ملأتِ وقتك بالعبادة والروحانيات.. فلم ترضى نفسك بغير تلك اللذة الروحانية والقرب من الله..
نظرت إلى حبيبها الذي كان يستمع إلى الخفي دون أن يتكلم.. قالت له والدموع تنهال بغزارة من عينيها:
- سامحني يا حبيبي.. سامحني.. لقد ضيعت أيامك ولياليك الثمينة وأنت كنت موجوداً وقريباً مني.. ولم أشعر بذلك القرب.. سامحني..
وما كادت روان تنتهي من تلك الكلمات حتى اختفى حبيبها من المكان.. نظرت إلى كريم.. صرخت قائلة:
- أين ذهب حبيبي أيها الخفي؟
قال لها كريم بهدوء:
- يا روان.. لقد حان موعد رحيله.. اليوم هو آخر يوم في عمره على الأرض..
- ولماذا يرحل؟ لماذا لا يبق كل أيام السنة؟ إننا نحبه!
- يا روان إن البعض لا يعرف قيمته وهو يزورهم مرة كل عام؟ فيكف إذا أناخ رحاله عندهم؟ يا روان.. لو رأيت كيف تعطلت الأعمال.. وكيف زادت الحوادث وكيف ارتفعت الأسعار وكيف زادت الديون على أعناق الفقراء لقلت ليته رحل بالأمس وليس اليوم.. إنه يرحل لتنتظم حياة الناس من جديد..
قالت بانفعال:
- لكن هكذا يرحل دون أن أعرف نتيجة أعمالي؟ دون أن أعرف إن سامحني على تقصيري في ضيافته أم لا؟
- لا تقلقي يا روان.. سيأتي العام القادم..
- هو سيأتي لكن.. هل سأكون أنا موجودة؟
- ربما.. نعم وربما....
ردت وهي تهز رأسها بأسى:
- وربما لا أليس كذلك؟ ولا ألقاه ثانية ولا أستزيد من حبه وحنانه وبركاته وعطائه؟
لم تسمع جواباً.. تلفتت حولها فوجدت أنها وحيدة.. فقد اختفى كريم أيضاً.
الأحد ديسمبر 27, 2009 12:15 pm من طرف مهند شريف