ألم يإن للذين أمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد, وعن أنس بن مالك رضي عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى:( يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
يارب إن عظمت ذنوني كثرة .:. فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن .:. فمن ذا الذي يدعو ويرجو المجرم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا .:. وجميل عفوك ثم إني مسلم
أعظم يوم في حياتك, يوم أن تبدأ صفحة جديدة بيضاء مع الله, يومُ انحطاط الذنوب والنكران, يومُ عتِق الرقاب من النيران, بعد أن زلت الأقدام، وتفضل بالعفو الكريم المنان, صفحة بيضاء يوم يُسكَبُ العطر الحلال (دموع التوبة), وتنادي أصوات العصاة والمذنبين: (( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ))[الأعراف:23]. فيأتي الجواب الرباني:( فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ) رواه البخاري.
العفو أحب إليه من الانتقام، والرَّحمة أحب إليه من العقوبة، سبقت رحمته غضبه، وحلمه عقوبته، الفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع، لا إله إلا هو.
قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:( اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ ) رواه البخاري.
يورد ابن القيم رحمه الله عن بعض العارفين: أنه رأى في بعض السكك صبيا يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده، وأغلقت الباب في وجهه ودخلت.
فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكِّراً، فلم يجد مأوى غير البيت الذي أُخْرِج منه، ولا مَنْ يئويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً، فوجد الباب مُرْتَجاً مُغْلَقاً، فتوسَّدَه ووضع خدَّه على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه، فلمَّا رأته على تلك الحال لم تملك أن رَمَت بنفسها عليه والْتزمته تُقبِّله وتبكي، وتقول: يا ولدي! أين تذهب عني؟ من يؤويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني؟ ولا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادة الخير لك؟ ثم ضمَّتْه إلى صدرها، ودخلت به بيتها.
فتأمل قولها: لا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبِلتُ عليه من الرحمة بك والشفقة عليك، وتأملْ قوله صلى الله عليه وسلم: لَلَّهُ أرحم بعباده من الوالدة بولدها فأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟!.
وكيف لا يفرح بتوبتهم, وقد ناداهم بقوله: يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ رواه مسلم.
كعب بن مالك وصفحة بيضاء
استنفرِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه لملاقاة الروم ويتولى الذين لم يجدوا ما يُحملونَ عليه بفيضِ دموعِهم حزناً أن لا يجدوا ما ينفقون. ويرجفُ المرجفون (( لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ))[التوبة: الآية81]. (( وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ ))[التوبة:49] وفِي الْفِتْنَةِ وقع، فر من الموت وفي الموت وقع.
ومنهم رجالٌ تخلفوا عن ركب المؤمنين، لا عن شكٍ ولا نفاقٍ لكن غلبتُهم أنفسُهم، وأدركَهم ضعفَهم البَشَري مع سلامةِ إيمانهم ومعتقدِهم رضي اللهُ عنهم وأرضاهم.
على رأسِ هؤلاء صحابيٌ جليل، إنه كعب بن مالك يقول: وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي راحلتان قبلها قط، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزاة، في حر شديد واستقبل سفرا بعيد ومفازا وعدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجه الذي يريد.
وعلى الجانب الآخر طابت الثمار وهنا بدأ الامتحان وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، يقول فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيً، فأقولُ في نفسي أنا قادرٌ عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معهم ولم أقضي من جهازي شيئا، فقلت أتجهز بعده بيومٍ أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا.
قال فلم يزل بي ذلك حتى أسرعوا وتـفارط الغزو وفات، وهممت أن ارتحل فأدركهم وليتني فعلت.
مشكلةٌ التسويف
استطاع الشيطانُ أن يلج إلي كثير منا من هذا البابِ، حالَ بينَنا وبين كثيرِ من الأعمالِ قد عزمنا على فعلها، فقلنا سوف نعملها ثم لم نعمل! كم من غني قال: أتصدق وأخرج زكاة مالي وتجارتي حتى أدركه الموت ولم يتصدق.
كم من مذنبٍ قال سوف أتوب فداهمَه الموتُ وما تاب. كم من باغٍ للخيرِ عازم عليه وأدركَه الموتُ ولم يستطع ذلك حال بينَه وبين الخيرِ سوفَ, كم من عازمٍ على الحج وقد تيسر له حتى داهمه الموت ولم يحج. فالحزم الحزمَ بتداركِ الوقت وترك التسويف فإن سوف جنديٌ من جنودِ إبليس.
فأطرح سوف وحتى
فهما داء دخيل
***
فلا تُبقِ فعل الصالحات إلى غدٍ
لعل غداً يأتي وأنت فقيد
يقولُ كعب: فكنتُ إذا خرجتُ في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحزنني أن لا أرى أسوة لي
إلا رجلاً مغموصا علي النفاق، أو رجلا ممن عذره الله من الضعفاء واللذين لا يجدون ما ينفقون.
ولم يذكرني رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغَ تبوك فقال وهو جالسُ بين أصحابِه: ما فعلَ كعب؟ فقال رجلُ من بني سلَمة: يا رسول الله حبسَه برداه ونظره في عطفيه (أي إعجابه بنفسه). فقال معاذ وقد استنكرَ الأمرَ: بئس ما قلت، واللهِ يا رسولَ الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكتَ صلى الله عليه وسلم.
الذب عن عرض أخيك
إن معاذًا رضي اللهُ عنه لم يسَعَه السكوت وهو يرى من ينالُ من عرضِ أخيه المسلم فبادرَ بالإنكار، لم تغلبه المجاملة فيسكت كما يفعلُ البعض، كيف يسكت وهو يعلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رواه الترمذي. وهو يعلم أيضا أن الساكت كالراضي، والراضي كالفاعل.
يقول كعب: فلما بلغني أنه توجَه قافلا يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم حضرني همي فطفقت أتذكر الكذب وأقولُ: بماذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا؟.
واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلم قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما، زاح عني الباطلَ وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيءٍ في كذب فأجمعتُ صدقَه ويا له من رأي.
وقدم صلى الله عليه وسلم ثم جلسَ للناسِ، وجاءه المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون له فقبلَ منهم علانَيتهم ووكل سرائرَهم إلى الله الصدق منجاة وجئته فلما سلمت عليه تبسمَ تبسم المُغضب ثم قال تعال، فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال: ما خلفَك يا كعب، ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟.
فقلتُ يا رسولَ الله: والله لو جلستُ عند غيرِك من أهلِ الدنيا لرأيتُ أني سأخرجُ من سخطِه بعذر، واللهِ لقد أُعطيتُ جدلا، ولكني والله لقد علمتُ أني لإن حدثتُك اليومَ حديثِ كذبٍ ترضى به عني، ليوشكَن اللهَ أن يسخطَك علي، ولأن حدثتُك حديث صدقٍ تجد علي فيه إني لأرجُ فيه عفو الله، واللهِ يا رسولَ الله ما كان لي من عذر، والله ما كنتُ قط أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفتُ عنك.
فقال صلى الله عليه وسلم أمّا هذا فقد صدق، قم حتى يقضيَ الله فيك, علم كعبُ أن نجاتَه في الدنيا والآخرةِ إنما هي في الصدق، وقد هدي ووفق للصواب، والموفق من وفقه الله.
يقول كعب: فقمتُ وثار رجال من بني سلمة فأتبعوني وقالوا لي: واللهِ ما علمناك يا كعبُ قد أذنب ذنبا مثل هذا، أو قد عجزت أن لا تكونَ اعتذرتَ إلى رسولِ الله بما اعتذر إليه المخلفون، قد كان كافيك ذنبَك استغفارُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لك. يقولُ فواللهِ ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجعَ فأكذبَ نفسي.
إرضاء الخالق لا المخلوق وخطورة الصديق
ما أشد خطر صديق السوء، كاد يهلك بسبب بني عمومته الذين يظهرون بمظهر الناصح المشفق، وهم يدفعون به إلى واد سحيق من الهلاك هلك به جمع كبير من المنافقين.
تجدهم يتهمون الصادق بأنه طيب القلب غر لا يحسن المراوغة ولا المخارج، ويصفون الكاذب بالذكي الألمعي العبقري!! كل ذلك وسائل لتزيين الباطل يبهرجها قرين السوء من حيث شعر أو لم يشعر.
فمن العداوة ما ينالك نفعه
ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
المقاطعة لكعب وصحبه، تربية وتصفية لهم
يقول كعب: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا من بين كل من تخلف عنه، قال فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي الأرضُ فما هي بالأرضِ التي أعرف، ولبثنا على ذلك خمسين ليلةً، وكنتُ أشد القوم وأجلَدَهم فكنتُ أخرجُ فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف الأسواق فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسِه بعد الصلاة فأسلمَ عليه فأقولَ في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟!.
ثم أصلي قريباً منه فأسارقَه النظر فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت إليه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس، مشيتُ حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابنُ عمي وأحبُ الناسَ إلي، قال فسلمت عليه، فواللهِ ما ردَ علي السلام.
فقلتُ له نشدتُك الله هل تعلمني أحبُ اللهَ ورسولَه؟ فسكت. فنشدتهُ فسكت، فأعدتُ عليه فنشدته فقال اللهُ ورسولُه أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار أهيمُ على وجهي.
مقاطعة المذنب وتربية رسول الله
انظر كيف تكاتف المجتمع المسلم بكاملة، وامتثل الأمر الموجه إليه، فلا أحد يكلمه، حتى ولو كان ذلك في غيبة أعين الرقباء، لأن الرقابة لله. إن أضر شيئا على المجتمع أن يجد أهل الفسق والفجور صدورا رحبة تحتضنهم وترضى عنهم وتبجلهم وتقدرهم، ولو أن العصاة والمنحرفين وجدوا مقاطعة وازدراء عاما لكان دافعا إلى أن يرشد الغاوي ويستقيم المعوج ويصلح الطالح.
كان لذلك تأثير عميق على النفوس الخيرة التي تعودت أن تألف وتُألف وذلك عين الحكمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تقضي باللين في مكانه، والشدة في مكانها، وهذا ما يحتاجه الناس في دعوتهم، وتعاملهم وتربيتهم لمن تحت أيديهم.
يقولُ كعبٌ: فبينا أنا أمشي في سوقِ المدينة إذ نبطي من أنباط أهلِ الشامِ يقول: من يدل على كعب؟ فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع لي كتابا من ملك غسان، فإذا فيه أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك -يعني رسولَ الله صلى الله عليه وسلم- قد جفاك، ولم يجعلُك الله بدارِ هوانٍ ولا مضيعة فألحق بنا نواسك. فلما قرأتها قلت أيضا هذا من البلاء، هذا من الامتحان فيممت بها التنور وسجرته بها - أي أحرقتها-.
قطع وسائل المعصية
إن المسلم قد يخطأ ولكنه لا يعالج الخطأ بخطأ آخر، إن أداة المعصية يوم تكون قريبة فإنها تذكر بالمعصية، وتفتح للشيطان باب الوسوسة والمراودة الكرة بعد الكرة، أما كعب فقد تخلص من هذه الأداة فأحرقها حتى يغلق مثل هذا الباب رضي الله عنه وأرضاه.
إن آلة المعصية التي توجد في المنازل، في المكاتب، وفي غيرها، (من آلات موسيقية، مجلات ماجنة، خطابات غرامية، صور، أفلام، شرائط كاسيت) يوم تترك فإنها مدعاة لأن يضعف أمامها يوما ما، ويعاود القرب منها والممارسة لها.
ولا يزال البلاء والتمحيص بكعب، حتى أمر باعتزال زوجته فامتثل الأمر واعتزلها وطلب منها اللحاق بأهلها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
يقولُ كعب: وكملت لنا خمسون ليلةً وأنا على ظهرِ بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكرها الله في ما بعد قد ضاقت عليَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرضُ بما رحبت، سمعتُ صوتَ صارخٍ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعبَ أبشر بخيرِ يومٍ مر عليكَ منذُ ولدتكَ أمك.
قال فخررتُ ساجداً شاكراً لله عز وجل، وعرفتُ أن قد جاء الفرج. فلما جاءني الذي بشرني، نزعت له ثوبيَ فكسوته إياهما، والله ما أملك غيريهما
واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلتُ عليه في المسجد، فإذا هو جالس والناس حولَه جلوس فقام إلي طلحةُ فرحا مغتبطا يهرولُ حتى صافحني وهنأني، ولله ما أنساها لطلحةَ رضي الله عنه.
الله أكبر ما أعظمَه من تعاملٍ لصحابةِ مع أخيهم، بالأمسِ القريب لا يتحدثونَ معه، ولا يردون عليه السلام، واليوم يتنافسون في من يصلَ إليه أولاً ليبلغه نبأ التوبة, إنه حبُ الخيرِ لأخيهم كما يحبونَه لأنفسِهم ولكن تحت ضوابط الشرع وأوامرَ الشارع.
قال كعب: فسلمت على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال وهو يبرق سرورا وجهُه كأنه فلقة قمر: أبشر يا كعب بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك. فقلت أَمِن عندك يا رسولَ الله أم من عندِ الله؟ سبحان الله!! مازال كعب يعامل الله! يعامل الخالق لا المخلوق فقال صلى الله عليه وسلم: بل من عندِ الله، فحمد الله وأثنى عليه.وتلى قول الله: (( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُْ ))[التوبة:118].
فلو داواك كل طبيب داء
بغير كلام ربي ما شفاك
وفاز الصادقونَ بصدقهم، وحبطَ عملُ الكاذبين واللهُ لا يهدي القومَ الفاسقين، وظهر الاعتبارُ بكمالِ النهايةِ لا بنقصِ البداية.
الاعتبارُ بكمالِ النهايةِ لا بنقصِ البداية
و جلسَ كعبُ بين يدي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قائلاً يا رسولَ الله: إن من توبتي أن أنخلعَ من مالي صدقةً إلى لله ورسولِه. فقال عليه الصلاة والسلام، أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. ثم يعلنُ رضي الله عنه فيقول يا رسول الله: إن الله إنما أنجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدثّ إلا صدقاً ما بقيت. وصدق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قد يبلغ الصادق بصدقه. ما لا يبلغه الكاذب باحتياله.
من مثلك؟
كان بكر المزني يقول: من مثلك يا ابن آدم؟! متى شئت تطهرت ثم ناجيت ربك، ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان. قيل للإمام أحمد رحمه الله: كم بيننا وبين عرش الرحمن؟ قال: دعوة صادقة من قلب صادق.
ينغمس في أنهارها!
من نظر إلى عظمة الله وجلاله؛ عظَّم حُرُماته، وَقَدَره قَدْرَه، وأجَلَّ أمره ونهيه، وعَظُم عليه ذنبه ولو كان صغيراً، لكأنه الجبل هو في أصله يخشى أن يقع عليه فيهلكه، فقلبه كأنه بين جناحيْ طائر، تجده منكسر القلب، غزير الدمع، قلق الأحشاء، له في كل واقعة عبْرَة، إذا هدل الحمام بكى، وإذا صاح الطير ناح، وإذا شدا البلبل تذكَّر، وإذا لمع البرق اهتزَّ قلبه خوفاً ممن يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، الذلُّ قد علاه، والحزن قد وَهَّاه، يذم نفسه على هواه، ويصدع بأوَّاه.
أواه من غفلاتي
ومن عسى ولعلا
يا من عليه اعتمادي بك اهتديت
ومن لم يَرْجُ الهدى منك ضلا
كان ماعز شاباً من الصحابة, متزوج في المدينة, وسوس له الشيطان يوماً, وأغراه بجارية لرجل من الأنصار, وكان الشيطان ثالثَهما فلما فرغ ماعز من جرمه, تخلى عنه الشيطان, وأحاطت به خطيئته, حتى أحرق الذنب قلبه, فجاء إلى طبيب القلوب, ووقف بين يديه وصاح من حرّ ما يجد وقال: يا رسول الله, إن الأبعد قد زنى, فطهرني فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم, فجاء من شقه الآخرَ فقال: يا رسول الله, زنيت, فطهرني فقال صلى الله عليه وسلم: ويحك ارجع, فاستغفر الله وتب إليه, فرجع غير بعيد, فلم يطق صبراً, فعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فصاح به النبي صلى الله عليه وسلم, وقال: ويلك, وما يدريك ما الزنا؟ ثم أمر به فطرد ثم أتاه الثالثةَ, والرابعةَ كذلك, فلما أكثر عليه, سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قومَه: أبه جنون؟ قالوا: يا رسول الله, ما علمنا به بأساً, فقال: لعله شرب خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه وشمّه فلم يجد منه ريح خمر.
فقال صلى الله عليه وسلم: هل تدري ما الزنا؟ قال: نعم. أتيت من امرأة حراماً، مثلَ ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً, فقال صلى الله عليه وسلم: فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني, قال صلى الله عليه وسلم: نعم, فأمر به أن يرجم, فرجم حتى مات, فلما صلوا عليه ودفنوه سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا, الذي ستر الله عليه ولم تدعه نفسه حتى رُجم رَجم الكلاب!!.
فسكت النبي صلى الله عليه وسلم, ثم سار ساعة, حتى مر بجيفة حمار, قد أحرقته الشمس حتى انتفخ وارتفعت رجلاه, فقال صلى الله عليه وسلم: أين فلان وفلان؟ قالا: نحن ذانِ يا رسول الله, قال: انزلا, فكلا من جيفة هذا الحمار, قالا: يا نبي الله! غفر الله لك, من يأكل من هذا؟.
فقال صلى الله عليه وسلم: ما نلتما, من عرض أخيكما, آنفا أشدُّ من أكل الميتة, لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم, والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها!.
إلهي لا تعذبني فإني
مقر بالذي قد كان مني
وما لي حيلة إلا رجائي
وعفوك إن عفوت وحسن ظني
فكم من زلة لي في البرايا
وأنت علي ذو فضل ومن
إذا فكرت في ندمي عليها
عضضت أناملي وقرعت سني
أجن بزهرة الدنيا جنونا
وأفني العمر فيها بالتمني
يظن الناس بي خيرا وإني
لشر الناس إن لم تعف عني
يحج ماشيا من غرب إفريقيا الى الكعبة سيرا!!
الشيخ الحاج عثمان دابو رحمة الله من جمهورية جامبيا في أقصى الغرب الإفريقي، يحدثنا عن رحلته الطويلة إلى البيت العتيق، ماشياً على قدميه مع أربعة من صحبه من بانجول إلى مكة قاطعين قارة إفريقيا من غربها إلى شرقها، لم يركبوا فيها إلا فترات يسيرة متقطعة على بعض الدواب، إلى أن وصلوا إلى البحر الأحمر ثم ركبوا السفينة إلى ميناء جدة.
رحلة مليئـة بالعجائب و المواقف الغريبة التي لو دوّنت لكانت من أكثر كتب الرحلات إثارة و عبرة، استمرت الرحلة أكثر من سنتين، ينزلون أحياناً في بعض المدن للتكسب و الراحة و التزود لنفقات الرحلة، ثم يواصلون المسير. أصابهم في طريقهم من المشقة و الضيق و الكرب ما الله به عليم.
فكم من ليلة باتوا فيها على الجوع حتى كادوا يهلكون؟! وكم من ليلة طاردتهم السباع، وفارقهم لذيذ النوم؟! وكم من ليلة أحاط بهم الخوف من كل مكان؛ فقطاع الطرق يعرضون للمسافرين في كل واد؟!.
رب ليل بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه تسأله:
أليس حج البيت الحرام فرض على المستطيع، و أنتم في ذلك الوقت غير مستطيعين؟!.
قال: نعم ولكننا تذكرنا ذات يوم قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام عندما ذهب بأهله إلى واد غير ذي زرع
عند بيت الله المحرم، فقال أحدنا: نحن الآن شباب أقوياء أصحاء فما عذرنا عند الله تعالى إن نحن قصّرنا في المسير إلى بيته المحرم، خاصة أننا نظن أن الأيام لن تزيدنا إلا ضعفاً، فلماذا التأخير؟!.
إذا هبت رياحك فاغتنمها
فعقبى كل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها
فإنك لا تدرى السكون متى يكون
خرج الخمسة من دورهم، وليس معهم إلا قوت يكفيهم لأسبوع واحد فقط،قال الشيخ عثمان: لدغت ذات ليلة في أثناء السفر، فأصابتني حمّى شديدة و شممت رائحة الموت تسري في عروقي!! فكان أصحابي يذهبون للعمل، و أمكث تحت ظل شجرة إلى أن يأتوا في آخر النهار، فكان الشيطان يوسوس في صدري: أما كان الأولى لك أن تبقى في أرضك؟! لماذا تكلف نفسك ما لا تطيق؟! ألم يفرض الله الحج على المستطيع فقط؟! فثقلت نفسي وكدت أضعف.
فلما جاء أصحابي نظر أحدهم إلى وجهي وسألني عن حالي، فالتفت عنه ومسحت دمعة غلبتني، فكأنه أحس ما بي! فقال: قم فتوضأ و صلّ، ولن تجد إلا خيراً بإذن الله (( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ))[البقرة: 45، 46]. فانشرح صدري، و أذهب الله عني الحزن، ولله الحمد. كان الشوق للوصول إلى الحرمين الشريفين يحدوهم في كل أحوالهم، ويخفف عنهم آلام السفر ومشاق الطريق ومخاطره، مات واحد منهم في الطريق،ثم مات الثانى.
ثم الثالث الذى مات في عرض البحر، واللطيف في أمره أن وصيته لصاحبيه قال لهما فيها: إذا وصلتما إلى المسجد الحرام، فأخبرا الله تعالى شوقي للقائه، واسألاه أن يجمعني ووالدتي في الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
يعلو على الموت من تسمو إرادته
وفي عزيمته صدق وإيمان
قال الشيخ عثمان: لما مات صاحبنا الثالث نزلني همّ شديد وغمّ عظيم، وكان ذلك أشد ما لاقيت في رحلتي؛ فقد كان أكثرنا صبراً وقوة، وخشيت أن أموت قبل أن أنعم بالوصول إلى المسجد الحرام، فكنت أحسب الأيام والساعات على أحر من الجمر.
فلما وصلنا إلى جدة مرضت مرضاً شديداً وخشيت أن أموت قبل أن أصل إلى مكة المكرمة، فأوصيت صاحبي أنني إذا مت أن يكفنني في إحرامي، ويقربني قدر طاقته إلى مكة، لعل الله أن يضاعف لي الأجر، ويقبلني في الصالحين.
أنا الفقير إلى رب البريات
أنا المسيكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي
والخير إن يأتنا من عنده يأتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة
ولا عن النفس لي دفع المضرات
مكثنا في جدة أياماً، ثم واصلنا طريقنا إلى مكة، كانت أنفاسي تتسارع والبشر يملأ وجهي، والشوق يهزني ويشدني، إلى أن وصلنا إلى المسجد الحرام.
هنا السماوات تبدو قرب طالبها
هنا الرحاب فضاء حين يُلتمس
هنا الطهارة تحيا في أماكنها
لا الطيب يبلى ولا الأصداء تندرس
هنا تسكب العبرات
وأخذ الشيخ يكفكف عبراته، وأقسم بالله تعالى أنه لم ير لذة في حياته كتلك اللذة التي غمرت قلبه لما رأى الكعبة المشرفة! ثم قال: لما رأيت الكعبة سجدت لله شكراً، وأخذت أبكي من شدة الرهبة والهيبة كما يبكي الأطفال، فما أشرفه من بيت وأعظمه من مكان!.
ثم تذكرت أصحابي الذين لم يتيسر لهم الوصول إلى المسجد الحرام، فحمدت الله تعالى على نعمته وفضله عليّ، ثم سألته سبحانه أن يكتب خطواتهم وألا يحرمهم الأجر، وأن يجمعنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
إقبال جاد على الطاعة، وإقبال لا يعرض عليه التكاسل أو التسويف، إقبال تهون فيه الآلام والأكدار، إقبال تتساقط تحته كافة العراقيل والعقبات.. إقبال بهمة صادقة وعزيمة عالية تنبع من قلب متعلق بمحبة الله والامتثال لأمره.
فسبحان القائل: (( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ))[الحج: 27].
تأمل في حال كثير من المسلمين ممن تحققت فيهم الشروط الشرعية الموجبة لحج بيت الله الحرام، ومع ذلك يسوفون عن الحج متباطئين! ألا يتذكر أولئك قول النبي صلى الله عليه وسلم: من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة. أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي قال: من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه.
فقيراً جئتُ بابك يا إلهي
ولستُ إلى عبادك بالفقيرِ
غنياً عنهمُ بيقينِ قلبي
وأطمعُ منك في الفضلِ الكبيرِ
إلهي ما سألتُ سواك عونا
فحسبي العونُ من ربٍ قديرِ
إلهي ما سألتُ سواك عفوا
فحسبي العفوُ من ربٍ غفورِ
إلهي ما سألتُ سواك هديا
فحسبي الهديُ من ربٍ بصيرِ
إذا لم أستعن بك يا الهي
فمن عونيِ سواك ومن مجيرِ
من حال إلى حال
يقول الدكتور أحمد عمار استشاري جراحة المخ والأعصاب: قمت بإجراء عملية جراحية لاستئصال ورم سرطاني في دماغ امرأة في السويد قد جاوزت الأربعين من عمرها وشفيت المرأة بفضل الله, دخلت عليها في غرفتها؛ لأقوم بنزع (الغرز) من رأسها فحركتُ مرفقي بلا شعور مني فدفعتُ صورة كانت بجوارها فوقعتْ على الأرض، فأهويت لكي أرفعها فإذا هي صورة كلب!.
فرأيت الامتعاض في وجهها، فقلت لها: إنه كلب!، فقالت: نعم؛ ولكنه الشخص الوحيد الذي ينتظر عودتي إلى البيت!. فعلمت أنه ليس في حياتها من يفرح لفرحها أو يحزن لحزنها إلاّ هذا الكلب!، فسألتني: من أين أنت؟! فقلت: من مصر، عربيٌ مسلم!، فأخذت تسمعني الازدراء لوضع المرأة عندنا، وكبت حريتها كما زعمت.
فقلت: إن المرأة عندنا مكرمة مصونة، فهي كالجوهرة الغالية النفيسة، كلٌ يخدمها ويحوطها ولا تخرج إلى سوق أو عمل إلا ومعها أحد هؤلاء، حفاظاً عليها.
ليس شكاً فيها فحاشا وكلا، فهي محل الثقة، غير أنّا نريدها في علاها نجمة لا تنالها أعيُنُ الناس تراها مصونة في سماها جعل لها الإسلام مكانة ليست لنساء الدنيا كلها، وما حفاظنا عليها إلا لعظيم قدرها في قلوبنا لكنها كالوردة الجميلة التي لا يجوز لكل الناس أن يشموها حتى لا تفسد! وإذا مرضت, فإنها تجد أهلها كلهم حولها، يحفون بها، ويخدمونها، ويراقبون أنفاسها، ويعتنون بها غاية العناية، ولا تكادين تجدين موطأ قدم في غرفتها لكثرة من يقوم بخدمتها من أقربائها، وإذا خرجت من المستشفى فإن هناك جيشاً من أهلها في انتظارها؛ فيفرحون لفرحها، ويسعدون لسعادتها؛ وليس كلباً في انتظارها كحالك!. فغضبت, واتهمتني بأنني متخلف وسطحي, فابتسمت وخرجتُ من غرفتها بعد أن أنهيت عملي!.
ثم فوجئتُ بأن تلك المرأة تشكوني إلى كبير الأطباء وتطلب منه عدم دخولي عليها مرة أخرى!، بل وترغب في الخروج من المستشفى. فقلت: لابد من بقائها يومين على الأقل حتى أتمكن من إنهاء علاجها وأعمل لها تحاليل طبية, فأصرت على الخروج وخرجت.
نسيت الموقف تماماً، فليست أول غربيٍ أسمع منه هذا الكلام، ولن تكون الأخيرة!. وفي ليلةٍ، فوجئت باتصال من الطبيب المناوب بقسم الطواريء يخبرني بأن امرأة لديها حالة تشنج مستمر. فأسرعت إلى المستشفى في منتصف الليل، ففوجئت بأن المريضة هي نفسها تلك المرأة! وكنت قد نسيتُ موقفها معي تماماً، فأدخلتها غرفة العمليات، وقمت بإجراء عملية لها في الدماغ، وتمت بنجاح والحمد لله ثم دخلت عليها بعد إفاقتها، فرفعت رأسها ونظرت إليّ، وتكلمت بلسان ثقيل: أنت الذي أجريت لي العملية؟ نعم. وسهرت بجواري طوال الليل: نعم, لأن هذا واجبي.
قالت: يعني هذا أنك أنت الذي شفيتني! قلت: لا. قالت: من إذن؟ هل كان معك أحد؟ قلت: نعم، إنه الله عز وجل، هو الذي شفاك، وإنما أنا سبب، أنا الذي عالجتُ فقط. قالت: أنت لا تزال رجعياً، تؤمن بالخرافات، وما وراء الطبيعة، أعجب لك وأنت طبيب مثقف كيف تصدق مثل هذه الأمور؟.
قلت: وأنا أعجب لك وأنت تدعين الثقافة ، كيف لا تقرئين عن الإسلام، وتجوزين لنفسك إلقاء التهم جزافاً؟! ثم ودعتها وانصرفت.
وبعد قرابة ستة أشهر، أخبرني أحد العاملين أن هناك امرأة تريدني على الهاتف, رفعتُ السماعة: نعم، من المتحدث؟ فإذا بها تلك المرأة نفسها، وقد تبدلت نبرة حديثها، لكنها تطلب مني أمراً غريباً: أريد أن أراك, هل تستطيع أن تطلب إجازة من عملك، وتأتي إلينا في (لوند) لمدة يومين؟ فاعتذرت؛ لأن عملي متواصل دائماً بلا انقطاع. فألَحّت عليّ، فامتنعتُ، فطلبت مني طلباً غريباً: ما اسم أمك؟ (فقلت في نفسي: لعل هذا من آثار العمليات الجراحية التي أجريت لها، هل سببت لها خللاً في التفكير ؟) لماذا تريدين اسم أمي؟ قالت بصوت متهدج : لأني: أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله, وأنا أسلمت ، وعرفت طريق الحق, وأنت لك حقٌ عليّ، وأريد أن أسمي نفسي باسم أمك, أنت الذي دللتني على الطريق الحق, ومن حقك أن أذكرك دائماً بخير.
(فضج مجلسنا بالتكبير والتهليل ) قال الدكتور : فكادت سماعة الهاتف تسقط من يدي، ثم سكت فجأة, فالتفتُ إليه فإذا عيناه تفيضان بالدمع! وأخذته بحةٌ في صوته، فأكمل حديثه بصعوبة بالغة, قال: فذهبت إلى رئيسي في المستشفى؛ لأطلب منه إجازة يومين. فقال لي : أنت يا دكتور أحمد الطبيب الوحيد الذي لم يحصل على إجازة منذ سنتين! خذ أكثر. قلت: لا, يومان كفاية.
فذهبت إليها، فإذا هي امرأة غير تلك المرأة التي كانت تعظم صورة كلبٍ بجوار رأسها في المستشفى، امرأة تبدلت وتبدل فيها كل شيء، كلامها، ولبسها، نظرتها للحياة, ذهبت معها إلى المحكمة، برفقة زميلين لي؛ لنشهد إشهار إسلامها، وهناك وسط قاعة المحكمة صدحت بكلمة الإسلام: أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله, وقرأت الفاتحة قراءة ملؤها البراءة والطهر .
فانفجرت بالدموع العيون، وخشعت النفوس، وبكينا بكاء الطفل، من شدة الفرح، وكيف لا نفرح وقد شهدنا ميلادها الحقيقي، وخروجها من الظلمات إلى النور، وكيف لا أبكي؟؟
والحمد لله رب العالمين
/ الشيخ أبو مسلم برجاس